مقالة فلسفية
هل العادة تكيف أم
انحراف؟
المقدمة: يعتبر السلوك من وجهة علم النفس استجابة تكيفية تهدف إلى تفاعل الكائن الحيّ مع المحيط الخارجي والحقيقة أنه يمكن التمييز بين ماهو فطري غريزي وثابت وبين ماهو مستحدث نتيجة تفاعل الفرد مع غيره ومع الطبيعة, فإذا علمنا أن العادة سلوك مكتسب آلي يتم بتكرار الفعل وأنها تؤثر في السلوك فالإشكالية المطروحة : ما طبيعة هذا التأثير؟ وهل هو إيجابي أم سلبي؟
//الرأي الأول(الأطروحة): إن السلطة التي تفرضها قوة العادة على الفرد تؤثر سلبا على سلوكه مما يجعلنا نحكم أن العادة كلها سلبيات وبيان ذلك أن الآلية المجسدة في العادة تشل حركة التفكير وتقضي على روح الإرادة وروح الإبداع كما أنها تعطل في الإنسان حركة البحث لأن الفرد وفيّ دائما لما يتعلمه واعتاد عليه, ولهذا قيل " من شبّ على شيء شاب عليه " ولأن الطبيعة البشرية تميل إلى الفعل السهل وتتجنب الأفعال الصعبة خوفا من الجهد وخطر الإبداع والتقدم وهكذا العادة تسدّ الطريق أمام الأفكار الجديدة, قال كارل ياسبرس : " العلماء يفيدون العلم في النصف الأول من حياتهم ويضرون به في النصف الثاني من حياتهم" , وعلى المستوى الأخلاقي تقضي العادة على بعض الصفات الإنسانية مثل أخلاق الشفقة والرحمة كما هو حال المجرم المحترف لهذا الفعل لا يكترث لعواقب إجرامه وما تلحقه الجريمة من أضرار نفسية ومادية بضحاياه, وهذا لغياب الشعور والإحساس وغياب الإحساس يعود إلى حتمية التكرار, يقول سولي برودوم : " إن جميع الذين تستولي عليهم قوة العادة يصبحون بوجوههم بشرا وبحركاتهم آلات" , وعلى المستوى الاجتماعي تظهر العادة كوعاء يحفظ العادات ما كان صالحا منها وما كان غير ذلك, ومن هنا يصعب تغيير العادات البالية حتى ولو ثبت بطلانها بالحجة والبرهان مثل محاربة الأساطير والخرافات, ولهذا نصح بعض الفلاسفة بالتخلي عن اكتساب العادات, قال "جون جاك روسو" في كتابه أميل " خير عادة للطفل ألا يألف أي عادة وأن لا يحمل على ذراع أكثر من أخرى وألا يتعوّد مدّ يده أكثر من الثانية, بل لابد من استعمال قواه" ، وتظهر سلبيات العادة في المجال الحيوي حيث يتعود البعض على استعمال أعضاء دون أخرى أو تناول المواد كالمخدرات, وهذا التعوّد يتحول على حسب تعبير أرسطو إلى طبيعة ثانية يصعب التخلص منها, وملخص الأطروحة يتجلى في مقولة كانط "كلما ازدادت العادات عند الإنسان أصبح أقل حرية واستقلالية " .
النقد: إن تصور حياة الفرد بدون عادة يعدّ ضربا من الخيال وإذا كانت للعادة سلبيات فلها إيجابيات.
//الرأي الثاني(نقيض الأطروحة): ينظر أنصار هذه الأطروحة إلى أن غياب الوعي والإحساس الذي ينتج عن فعل العادة على أنه يجلب مزايا لا يمكن إنكارها, فالعادة من هذا المنظور فعل إيجابي يوفر للإنسان الجهد الفكري والعضلي فيؤدي إلى السرعة في الإنجاز مع إتقان العمل مما ينعكس على الإنتاج والفرق واضح في قيمة وكمية العمل عند شخصيين أحدهما متعود على العمل والآخر مبتدئ فيه كما أن العادة تمكّن صاحبها من إنجاز أكثر من عمل في وقت واحد وفي هذا المعنى قال مود سلي " لو لم تكن العادة لكان في قيامنا بوضع ملابسنا وخلعها يستغرق نهارا كاملا " , ومن مزايا العادة أنها تمكن من التكيف مع المواقف الجديدة وتساعد على اكتساب عادات قريبة من طبيعتها من العادات المكتسبة, فلاعب كرة القدم بإمكانه ممارسة لعبة كرة السلة أو كرة اليد ، والفنان الذي يعزف على آلة يمكنه تعلم العزف على آلة أخرى بسهولة, قال آلان : " العادة تمنح الجسم الرشاقة والسيولة " , وفي ميدان البحث العلمي اكتساب بعض العادات النفسية المحضة يساعد على تطور المعارف وتقدم حركة البحث العلمي, فالمنهجية التي يتعلمها الباحث توفر له الجهد والوقت, وفي المجال النفسي والاجتماعي يمكن التعود على سلوكات إيجابية مثل ضبط النفس وكظم الغيظ وترابط الأفكار في الاستدلال وتعلم الأخلاق الفاضلة كخلق التضامن وحبّ الخير والكرم وما ذهب إليه ليفي بويل و دوركايم من أن جميع القيم هي عادات أخلاقية, وملخص الأطروحة أن العادة تنعكس بشكل إيجابي على كامل أبعاد شخصية الإنسان.
النقد: لكن طبيعة الإنسان الميالة إلى التخلي عن كل ما يتطلب الانتباه والجهد إلى طلب كل ماهو عفوي يجعل اكتساب العادات الفاسدة أكثر من العادات الصالحة.
التركيب: إن سلبيات العادة لا يمكن أن تحجب مزاياها وإيجابياته, وعلى الإنسان المثقف أن يبادر بالتمسك بالعادات الفاضلة والتخلي عن العادات السيئة وتسييرها وفق منهجية مرسومة, قال ماري توين : " لا تستطيع التخلص من عادة برمتها من النافذة بل ينبغي جعلها تنزل السلم درجة درجة " وفي مقابل ذلك يجب على الفرد أن يدرك أن نتائج العادة مرتبطة بطريقة استعمالها والهدف منها، قال شوفاليي : " إن العادة هي أداة الحياة أو الموت حسب استخدام الفكر لها أو بتعبير أحسن حسب أن يستخدمها الفكر من أجل غايته أو يتركها لنفسه " .
الخاتمة: وملخص هذه المقالة أن العادة ترتبط بحياة الإنسان, اختلف الفلاسفة وعلماء النفس في تحديد العوامل المكونة لها والنتائج المترتبة عنها وبعد استعراض مختلف المواقف والأفكار نستنتج أن: العادة لها سلبيات وإيجابيات حسب درجة ثقافة الشخص وطريقة استعمالها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق